الجواب
: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
إذا كان التعامل بهذه
العملة مع الصين فقط وكذلك مع أي دولة أخرى تقنن أوضاع تداول هذه العملة وتعترف
بها فلا حرج من التعامل بها ، لأن الغطاء القانوني والمالي والحماية الرسمية للمتعاملين
بها قد توفر باعتراف دولة بهذه العملة ، ولكن لا يجوز التعامل بهذه العملة إلا مع
الدولة التي تعترف بها رسميا فقط ، وأي دولة لا تعترف بقانونية هذه العملة ولا
تتوفر لها الحماية الرسمية فلا يجوز التعامل بها معها لوجود الضرر والغرر الفاحش .
*
الشروط التي وضعها الفقهاء لتداول العملة :
لقد وضع الفقهاء شروطا للعملة التي يتداولها
الناس ويستعملونها مقايضة للسلع ، ومن أهم هذه الشروط :
1-
أن تكون العملة صادرة عن السلطان أو ولي الأمر حتى تتوفر لها الكفالة والحماية
القانونية لضمان حقوق العباد .
2-
أن تكون فيها صفة الثمنية المعتبرة في تقويم قيمة السلع .
3-
أن تتوفر معلومية طرفي المعاملة ، ومعلومية العوضين .
وبالنظر إلى العملة الإلكترونية المشفرة التي
تُسمى (بتكوين) أرى أنه لا تتوفر فيها المعايير الشرعية ولا القانونية لتداولها
كعملة يتعامل بها الناس في المقايضة بالبيع والشراء ، وبيان ذلك كالتالي بناء على
ما سبق من شروط :
1-
اعتماد الدولة للعملة الذي يعطيها صفة قانونية ائتمانية لحفظ حقوق العباد هو ما
يسميه الفقهاء : صك العملة أو صك النقود ، وهذا الحق لا يجوز لأفراد الرعية من
الناس بل هو حق للدولة وحدها لتكون ضامنة لقيمتها وتوفر الحماية القانونية لها عند
التداول ، فسلطة إصدار النقد قد جعلها الفقهاء شرطا لمشروعيتها وتداولها بين الناس
.
قال الإمام النووي رحمه الله في "روضة
الطالبين وعمدة المفتين" (2/ 258) :
[
ويكره للرعية ضرب الدراهم وإن كانت خالصة؛ لأن ضرب الدراهم من شأن الإمام. ] هـ.
وقال الوزير نظام الملك أبوعلى الحسن الطوسي
الشافعي رحمه الله في "سير الملوك" (233بتصرف يسير) :
[ضَرْب
السِّكَّة لم يكن لغير الملوك في كل الأعصار.] اهـ.
وقال الفراء رحمه الله في "الأحكام
السلطانية" (181) :
[
الإمام أحمد أنه قال : (لا يصلح ضرب الدراهم إلا في دار الضرب، بإذن السلطان؛ لأن
الناس إن رُخص لهم ركبوا العظائم) . ] اهـ.
وقال ابن خلدون رحمه الله في "المقدمة"
(1/ 261) :
[
وهي وظيفةٌ ضروريةٌ للملك ؛ إذ بها يتميَّز الخالص من المغشوش بين النَّاس في
النقود عند المعاملات. ] اهـ.
وقال الإمام السرخسي رحمه الله في "المبسوط"
(14/ 18) :
[
الْمُتَعَارَفَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ هِيَ الْمُعَامَلَةُ بِالنَّقْدِ
الْغَالِبِ، وَإِلَيْهِ يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ التَّسْمِيَةِ، وَالتَّعْيِينُ
بِالْعُرْفِ كَالتَّعْيِينِ بِالنَّصِّ.. لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ
فِي الْبُلْدَانِ تَخْتَلِفُ وَتَتَفَاوَتُ فِي الْعِيَارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ
فِي كُلِّ بَلْدَةٍ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ الْإِنْسَانُ بِمَا هُوَ النَّقْدُ
الْمَعْرُوفُ فِيهَا. ] اهـ مختصرًا.
وقال الإمام الماوردي رحمه الله في "الأحكام
السلطانية" (198) :
[
وَإِذَا خَلَصَ الْعَيْنُ وَالْوَرِقُ مِنْ غِشٍّ كَانَ هُوَ الْمُعْتَبَر فِي
النُّقُودِ الْمُسْتَحَقَّةِ وَالْمَطْبُوعِ مِنْهَا بِالسِّكَّةِ
السُّلْطَانِيَّةِ الْمَوْثُوقِ بِسَلَامَةِ طَبْعِهِ، الْمَأْمُونِ مِنْ
تَبْدِيلِهِ وَتَلْبِيسِهِ، هُوَ الْمُسْتَحَقُّ دُونَ نِقَارِ الْفِضَّةِ
وَسَبَائِكِ الذَّهَبِ -غير المسكوكة-؛ لِأَنَّهُ لَا يُوثَقُ بِهِمَا إلَّا
بِالسَّكِّ وَالتَّصْفِيَةِ وَالْمَطْبُوعُ مَوْثُوقٌ بِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ هُوَ
الثَّابِتَ فِي الذِّمَمِ فِيمَا يُطْلَقُ مِنْ أَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ وَقِيَمِ
الْمُتْلَفَاتِ، وَلَوْ كَانَتِ الْمَطْبُوعَاتُ مُخْتَلِفَةَ الْقِيمَةِ مَعَ
اتِّفَاقِهَا فِي الْجَوْدَةِ، فَطَالَبَ عَامِلُ الْخَرَاجِ بِأَعْلَاهَا قِيمَةً
نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ مِنْ ضَرْبِ سُلْطَانِ الْوَقْتِ أُجِيبَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ
فِي الْعُدُولِ عَنْ ضَرْبِهِ مُبَايَنَةً لَهُ فِي الطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ
ضَرْبِ غَيْرِهِ نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَأْخُوذَ فِي خَرَاجِ مَنْ
تَقَدَّمَهُ أُجِيبَ إلَيْهِ اسْتِصْحَابًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
مَأْخُوذًا فِيمَا تَقَدَّمَ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ غَبْنًا وَحَيْفًا.]
اهـ.
2-
هذه العملة من العملات الرقمية الالكترونية المشفرة الافتراضية الوهمية ، ليس لها
وجود مادي ولا ارتباط بالمؤسسات المالية الرسمية، ولا الجهات المالية الوسيطة من
مصارف ونحوها ؛ لذلك فإنَّه لا يوجد لها أصول ولا أرصدة حقيقية ولا غطاء مالي
حقيقي ، ولا تحميها أية ضوابط أو قوانين مالية، ولا تخضع لسلطة رقابية، الأمر الذى
يجعل من المتعذر ضمانها أو متابعتها حيث لا ندري من الجهة التي تقف خلفها ، وهي لا
تصلح أن تكون وصفا للثمنية كالذهب والفضة التي جعلها الله أثمانا للأشياء والسلع ،
أي قيمة الذهب والفضة كمعادن توجد فيها ولو لم تكن مقايضة بسلعة ، فالدنانير الذهبية
أو الدراهم الفضية تحمل قيمة في ذاتها وهي التي كانت سائدة فيما مضى ، وكذلك
بالنسبة للعملات الائتمانية التي تعتمد على قوة القانون، وليس لها قيمة في ذاتها
كالعملات الورقية، والتي أصبحت هي السائدة في جميع أنحاء العالم ، أما العملة
المشفرة فهي مجهولة المصدر وليس لها أي ضمان أو غطاء قانوني يحميها ، وبالتالي فهي
عملة قائمة على الغرر والجهالة المنهي عنه شرعا ، وجهالة العملة تبطل اعتمادها
للتداول بين الناس .
والنقود الورقية تأخذ حكم النقد الذهبي أو
الفضي الذي يحمل قيمة بذاته ، ومن هنا فإنه لا يجوز صرف بعضه ببعض نسيئة ، ولا
صرفه نسيئة بأي نوع آخر من أنواع النقود ، وبهذا يتضح : أن الشرط الأساس - في
الشرع والقانون - لاعتبار الشيء عملة نقدية ، هو : أن تعتمد الدولة ذلك رسمياً
لتكون بذلك ضامنة لقيمتها ولتتوفر لها الحماية القانونية التى تمكنها من القيام
بوظيفتها الأساسية ، وهي كونها مقياساً لقيم المقومات ، وثمناً للسلع ووسيلة
للوفاء بالديون.
3-
لا تتوفر أي معلومية رسمية عن هذه العملة ، حيث يتحكم فيها الأشخاص أنفسُهم ،
وتُحقِّقُ لهم قدراً كبيراً من الخصوصية والسرية ، ولا يمكن تعقُّبُها وذلك لأنها
لا تَعتمد على المؤسسات الرسمية والجهات المالية الوسيطة كالمصارف. ولكونها لا
ترتبط بأي مؤسسة مالية فإنه لا يوجد لها أصول ولا أرصدة حقيقية، ولا تحميها أية
ضوابط أو قوانين مالية، ولا تخضع لسلطة رقابية. وكان هذا أحد أسباب تَعَرُّضِها
لارتفاعات مهولة أو انخفاضات حادة وتذبذبات وتقلبات هائلة في قيمتها ، ويضاف إلى
ذلك كله : جهالة من يقف وراء ترويج هذه العملة الوهمية مما يجعلها لدى أي تغيرات
طارئة عرضة لأن تتلف وتفقد قيمتها.
فلو تخلى عنها من يروج لها وأغلقوا مواقعهم
فإنَّ هذا سيفقدها قيمتها ويؤدي إلى تلفها، مما يؤدي إلى ضياع حقوق أصحابها
المتعاملين بها. وذلك لأنها تعتمد على مبادئ التشفير في جميع جوانبها، ولا يتضمن
قانون التعامل بها أية معلومات عن الشخص أو بياناته ، فالجهالة تحيط بها بداية من
اكتسابها إلى الاستفادة منها ، وأيضاً فإنَّ الأنشطةَ التي تُستخدم فيها غالباً ما
تكون غير شفافة وكل ذلك يؤدي إلى الغرر والغش المنهي عنهما إجماعاً في الشريعة
الإسلامية ،قال الله تعالى : " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ
تَرَاضٍ مِنْكُمْ " [النساء: 29] .
وروى
مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم "
... عن بيع الغرر " ، وعنه رضي الله عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : " من غشنا فليس منا " .
وهذا ما أجمعت عليه الأمة حيث يقول ابن العربي الفقيه
المالكي رحمه الله في "القبس في شرح موطأ مالك بن أنس" (1/791) :
[
القاعدة الثامنة: الجهالة، وقد اتفقت الأمة على أنه لا يجوز إلّا بيع معلوم من
معلوم بمعلوم بأي طريق من طرق العلم وقع. ] اهـ.
وقال البجيرمي رحمه الله في تعريف الغرر في "حاشيته
على الإقناع" (3/ 4) :
[
مَا انْطَوَتْ عَنَّا عَاقِبَتُهُ أَوْ تَرَدَّدَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَغْلَبُهُمَا
أَخْوَفُهُمَا. ] اهـ.
*
الخلاصة : العملة الإلكترونية المشفرة بيتكوين أرى أنه
لا تتوفر فيها المعايير الشرعية ولا القانونية لتداولها كعملة ببن الناس لما فيها
من جهالة وغرر حيث لا يوجد لها ضوابط وقوانين تحميها وليس لها أصول أو أرصدة
حقيقية ويحوطها غموض حول من يقفون وراءها إلى غير ذلك من السرية عمن يديرونها بعيداً
عن الرقابة المالية والمحاسبة ، لهذا
لا أرى التعامل بها إلا إذا توفر لها الغطاء القانوني والمالي من قبل الدولة
لحماية حقوق المتعاملين بها .
لمزيد من الفائدة يمكن
الرجوع إلى هاتين الفتويين بالموقع : [ فتاوى قضايا فقهية معاصرة رقم : 5197 ،
5256 ] .
والله تعالى أعلم .
|