6) للعلماء .

  الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام علي رسوله الكريم المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين ، أرسله ربه بالهدي ودين الحق ليظهره علي الدين كله ، بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلي الله بإذنه وسراجا منيرا .

*  يكفي العالم شرفا أنه من ورثة الأنبياء ، وارث علم النبوة ؟ والأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر .

  والكائنات والوجود من حولنا يدعون للعالم الذي يصلح عباد الله علي الله ، ويعلمهم الحق ويحبب إليهم فعل الخيرات وترك المنكرات ، روي الترمذي عن أبي أمامة  أن رَسُول اللَّهِ  قال : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " ثم قال رَسُول اللَّهِ  : " إن اللَّه وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير " .

* العلماء في الأمة كالأطباء الرحماء ، فالأجساد تمرض ولها علاجها ، والقلوب والنفوس تمرض ولابد من علاجها وشفائها ، والتعامل مع الحديد والصخر أيسر وأهون من التعامل مع النفس البشرية التي تحتاج إلي صبر وحكمة ، فالإنسان قد استطاع بتسخير الله له أن يفتت الصخر وأن يلين الحديد في يده كالعجين ، فأصبح الحديد يطير في الهواء كالطائرات ويمشي بسرعة علي الأرض كالسيارات ، ويسبح في الماء كالناقلات العملاقة والسفن والعبارات ، ولكن بعض النفوس البشرية قد تظل سنين طويلة علي عنادها ولا تلين ، ومن هنا فصبر العالم ورحمته جزء من التعليم ، وله بذلك أجر الجهاد في سبيل الله ، لأنه يحارب في الميدان الأول للمواجهة مع الشيطان وهو ميدان النفس ، فإن انتصر الإنسان علي نفسه انتصر علي عدوه ، وإن انهزم أمام نفسه انهزم أمام عدوه .

  ومن أصلحه الله علي يد العالم فله مثل أجره لأن الدال علي الخير كفاعله .  

* هذه بشريات حسية ومعنوية لمن يعلمون الناس الخير :

1- نضرة الوجه وبهاؤه : فتري في وجه العالم التقي الصالح نور العلم ووقاره ببركة دعوة النبي  لمن ينشرون سنته ويعلمون الناس هديه وشريعته ، روي أحمد في مسنده والترمذي وابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود  عن النبي  قال : " نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وحفظها ثم أدها إلى من لم يسمعها ، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " . فالعلم ينضح بنوره علي الوجوه ويفيض عليها أمنا وسكينة وهيبة ووقارا .

  رؤية العالم يزيد بها الإيمان في القلب تأثرا بعلمه وأخلاقه ، لما أرسلت أم الإمام مالك ولدها الصغير ليتعلم عممته بيدها وقالت له : اذهب فتعلم من ربيعة أدبه قبل علمه . وقال بعضهم : كلما قسي قلبي أزور محمد بن واسع فأجلس علي رؤيته أسبوعا .

2- عمل العالم لا ينقطع بموته ، بل أجره موصول له في قبره ، عن أبي هريرة  أن رسول الله  قال : " إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " أخرجه مسلم .

3- كنوز العلم في صدر العالم تبعث في النفس الغبطة والرغبة في نوال هذه الدرجة ، عن عبد الله بن مسعود  قال : قال النبي  : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها "  متفق عليه .

* معاذ بن جبل  حامل لواء العلماء يوم القيامة ، وكان شابا صغير السن ويحبه النبي  حبا شديدا وأقسم علي هذا الحب وقال : يا معاذ والله إني لأحبك ، لا تدعن دبر كل صلاة تقول : اللهم أعني علي ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " .

  لما أصيب معاذ في طاعون عمواس قال : اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك ، اللهم إني ما كنت أحب البقاء في الدنيا لغرس الأشجار ولا لجري الأنهار ولا لأكل الثمار ، وإنما كنت أحب البقاء في الدنيا لظمأ الهواجر ، ومكابدة الساعات بالليل ، ومزاحمة العلماء بالركب في حلق العلم .

   هذه هي شهوته من الدنيا ، لذلك جعله الله أمة وإماما يقتدي به ،قال ابن مسعود  : إن معاذا كان أمة قانتا لله حنيفا، فقال بعض جلسائه في نفسه : غلط أبو عبد الرحمن، إنما قال الله -عز وجل-: { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله } [ النحل: 120 ] الآية. فأعاد ابن مسعود قوله ثم قال له : أتدري ما الأمة ، وما القانت ؟     فقلت:الله أعلم . قال: الأمة الذي يعلم الناس الخير، والقانت المطيع لله ولرسول الله  ، وكذلك كان معاذ بن جبل ، كان معلم الخير، وكان مطيعا لله ولرسوله  .

  الرجل الأمة هو الذي جمع هذه الخصال الثلاثة :

·       العلم .

·       والعمل .

·       والدعوة .

* أمانة العلم ثقيلة لأن العالم يدخل بين الله وبين خلقه ، فهو قدوة يقتدي به ، الأبصار به متعلقة ، والعيون ترمقه في سكناته وحركاته ، وزلة العالم يزل بها خلق كثير ، فالعالم كالسفينة ، إذا غرقت غرق من فيها ، ولعظم التبعة يعظم الأجر أيضا عند الله ، فالعلماء أعظم الأمة أجرا وقدرا : " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " .

* والعالم التقي الصالح ينتفع بعلمه أجيال عديدة ، وإذا كان علمه نافعا خالصا لوجه الله ، فالله يحفظ علمه من النسيان ويظل محفوظا في الصدور أو السطور كالماء العذب الذي يحي به الله الأرض بعد موتها .

   والعالم يتحصل علي علمه بالأسباب المعلومة من الاستماع والتحصيل والحفظ والمذاكرة ، ولكن هناك علم آخر يقذفه الله في قلبه بسبب خشيته وتقواه ، وهذا ما أشار إليه عبد الله بن مسعود  عندما قال : ليس العلم عن كثرة الرواية وإنما العلم نور يقذفه الله في القلب .

  ومن عجائب هذا العلم استنتاج بعض العلماء لأمور ليس عليها نص صريح في الدلالة عليها ، مثل :

1- استنتاج علي  أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وسبب الواقعة أن امرأة تزوجت ووضعت بعد ستة أشهر فشكوا في أمرها لأن المعتاد في الحمل سبعة أو تسعة أشهر ، فقال علي  : قال الله تعالي : " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " ، وقال في آية أخري عن مدة الرضاع : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " ، فثبت بهذا من الآيتين أن الرضاع الكامل 24 شهرا لو طرح من الثلاثين وهي الفترة الكاملة للحمل والرضاع بقي ستة أشهر هي أدني مدة الحمل . وهذا من عجائب الاستنباط .

2- سئل ابن الجوزي : أيهما أحب إلي النبي  : أبو بكر  أم علي  ؟ فقال : من كانت بنته تحته . وهذه إجابة ذكية تحتمل كل الوجوه ، لأن ابنة أبي بكر  عائشة  تحت النبي  فقد يكون هو الأحب ، وابنة النبي  فاطمة  تحت علي  فقد يكون هو الأحب .

3- سمع أحد الأعراب قارئا يقرأ قوله تعالي : " وكنتم علي شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " فقال : والله ما أنقذكم منها وهو يريد أن يدخلكم فيها . فعجب لها ابن عباس  وقال : خذوها من غير فقيه .

  هنيئا لمن علم العلم وانتفع بعلمه ، وأفضل العلم هو كتاب الله فيه الخير والهدي والنور ، لهذا خير هذه الأمة وأفضلها عند الله من علم عباد الله كتاب الله ، قال النبي  : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " رواه البخاري عن عثمان بن عفان  .